موقع جامعة عدن الإلكتروني

عــدن/ كتب:أ.د. مسعود عمشوش:
اللغات كائنات حية لا تكف عن التطور والارتقاء، وهناك وسائل عدة تساعد اللغات الحية على البقاء والتطور، وتلبية مختلف احتياجات مستخدميها، التواصلية والتعبيرية والشعورية التفكيرية والإبداعية، في العصر الذي يعيشون فيه. والترجمة، التي تعد أداة للتواصل بين المختلفين لغويا وثقافيا، إحدى تلك الوسائل. وليس هناك لغتان تتواصلان دون أن تترك كل واحدة منهما أثرا في الأخرى.
ومن المعلوم أن العرب قد عرفوا الترجمة منذ العصور القديمة، حينما نقلوا العلوم والآداب عن الفرس واليونان والصين والهند. وتتضمن اللغة العربية (القديمة)، عربية عصور الرواية والاحتجاج، شواهد كثيرة تبيّن تأثرها باللغات المجاورة: الحبشية والفارسية والرومية واليونانية والهندية. وقد ذكر السيوطي، في كتابه (المتوكلي)، إحدى عشرة لغة، منها الحبشية والفارسية والرومية والهندية وغيرها، اقترضت منها العربية عددا من المفردات، التي ورد بعضها في القرآن الكريم.
ومن المؤكد أن ازدهار حركة الترجمة ازدهارا كبيرا في أواخر العصر الأموي وبدايات العصر العباسي –لاسيما حينما أخذت بُعْدًا مؤسسيا في عهد الخليفة العباسي المأمون - كان عاملا مهماً من عوامل النهضة العربية في تلك الفترة.
كما تُعدُّ الترجمة أحد أهم عوامل النهضة العربية الحديثة، التي بدأت في مطلع القرن التاسع عشر. فقد كانت الترجمة أداة الاتصال الثقافي والفكري بالحضارة الغربية الحديثة. ومن المعلوم أن معظم رواد النهضة العربية قد مارسوا الترجمة وأسهموا في تطويرها. ففي عهد محمد علي باشا، قام رفاعة رافع الطهطاوي بتأسيس مدرسة الالسن في القاهرة عام 1835، وترجم نحو عشرين كتابا منها رواية: (مغامرات تليماك، 1848). وترجم تلامذته ما يربو على ألفين كتاب في مختلف الاختصاصات. واتسعت حركة الترجمة في مصر وبلاد الشام في أواخر القرن التاسع عشر، إلى درجة أن بعض المؤرخين يرى أنها كانت أنشط من حركة الترجمة في تلك الأقطار اليوم. (أنظر جاك تاجر، حركة الترجمة في مصر خلال القرن التاسع عشر، دار المعارف، 1954، ص36).
كيف أسهمت الترجمة في تطوير اللغة العربية في العصر الحديث؟
1-تمكين اللغة العربية من التخلص من سلبيات لغة عصر الانحطاط:
من المعلوم أن الكتابة العربية كانت، في نهاية القرن الثامن عشر، تميل إلى الاهتمام بالصنعة اللفظية، والمبالغة في استخدام المحسنات البديعية، دون الاهتمام بالمعاني والأفكار، كما اكتظت نصوص تلك الفترة بالألفاظ الأجنبية والعامية.
وبما أن الترجمة، في الأساس، نقل للمعاني والأفكار من لغة ما إلى لغة أخرى، فهي أجبرت المترجمين بشكل خاص، والكتاب بشكل عام، على التخلص من قيود السجع والمحسنات اللفظية، والتركيز على المعاني والأفكار، وذلك منذ بداية عصر النهضة.
ومن اللافت حقا أن نجد، في نصوص رفاعة الطهطاوي، المترجمة مثل (مغامرات تليماك)، أو المؤلفة مثل (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، صفحات من النثر التقريري، الخالي من جميع أنواع البديع، لاسيما تلك الفقرات التي يقدم فيها بعض أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية والتربوية في فرنسا، مثل الصحف، والكليات، والمتاحف.
باختصار، يمكن القول إن الترجمة هي العامل الأول في إزاحة أسلوب السجع والبديع، وترسيخ الأسلوب المرسل في النثر العربي الحديث في نهاية القرن التاسع عشر.
2- إدخال المصطلحات الحديثة في اللغة العربية
عند قراءتنا لنصوص رفاعة الطهطاوي نلمس الصعوبة التي يمكن أن الكتاب والمترجمين عند البحث عن كلمات أو مسميات عربية مناسبة للكم الهائل من الظواهر المرتبطة بالحياة الغربية، التي تتوزع بين شتى العلوم والمعارف. وقد قد رفد المترجمون اللغة العربية بكثير من المصطلحات والتعبيرات الجديدة، عن طرق الاستعارة، والاقتراض، والاشتقاق والنحت، التحوير، أو التوليد اللفظي، والتوليد الدلالي. ويتضمن المعجم العربي اليوم آلاف المصلحات والمفاهيم التي دخلته عن طريق الترجمة، وقد سجَّلها (المعجم الوسيط) باعتبارها جزءًا المعرَّب أو من الدخيل، أو ممّ أقرَّه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولا تزال كثير من المصطلحات (المعربة) اليوم خارج المعجم اللغوي المعتمد، إذ لم الاجماع على صورة واحدة لها. وعلى الرغم من بعض السلبيات التي التصقت بتعريب المصطلحات الأجنبية، فيظل للترجمة فضل تعزيز اللغة العربية العلمية التي باتت تحتوي على جميع المصطلحات العلمية المعروفة.
3- ظهور أجناس أدبية جديدة في الأدب العربي:
يرى الباحثون أن العرب، حين بدأوا الترجمة في عصرهم الذهبي، اتجهوا إلى حساب الهند وطب الإغريق وفلسفتهم، وفلك الكلدان وتنجيمهم، أما الآداب فكان لهم معها شأن آخر. فهم لم يترجموا الملاحم أو المسرحيات الاغريقية، وظلت هذه الأجناس الأدبية غريبة على الأدب العربي، إلى أن نشطت حركت الترجمة من جديد في القرن التاسع عشر.
وهناك أجماع على أن مارون النقاش هو أول من أدخل فن المسرح إلى اللغة العربية، وذلك حينما قدم في بيروت عام 1847، مسرحية (البخيل)، باللغة العربية الفصحى، هي في الواقع ترجمة لمسرحية لموليير تحمل الاسم نفسه: (البخيل). وبعد وفاة مارون النقاش استمرت فرقته في تمثيل عدد من المسرحيات المترجمة من اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية. ولم تبدأ عمليو التأليف المسرحي باللغة العربية إلا عند مطلع القرن العشرين.
وإذا كان مؤرخو الأدب يرون في نص (زينب)، التي ألفها محمد حسين هيكل خلال إقامته في باريس، ونشرها عام 1914، أول رواية عربية تقترب من النضج الفني، فهم يؤكدون أن هناك عددا كبيرا (آلاف) من الروايات قد تمت ترجمتها أو تعريبها ونشرها مسلسلة في الجرائد والمجلات، أو في كتب، خلال القرن التاسع عشر، وقد لا تكون رواية (مغامرات تليماك)، التي ترجمها رفاعة الطهطاوي عام 1849، أولها.
ومن المؤكد أيضا أن اللغة العربية قد عرفت القصة القصيرة مترجمة، قبل أن يكتب محمد تيمور قصته الأولى (القطار)، عام 1917، متأثرا فيها بقصص جي دي موباسان، الذي ظهرت ترجمات لبعض قصصه في مجلة الهلال في نهاية القرن التاسع عشر.
وفي مجال الشعر، يمكن أن نشير هنا إلى ترجمة سليم البستاني لملحمة هوميروس (الإلياذة). وفي نهاية القرن التاسع عشر ترجمت كذلك قصائد لألفونس دي لامارتين وفيكتور هوجو، وكذلك بعض المسرحيات الشعرية للفرنسي راسين والانجليزي شكسبير. وفي نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي قام علي احمد باكثير بترجمة مسرحية روميو وجولبت) مستخدما لأول مرة في اللغة العربية، شعر التفعيلة، ومنذ ذلك الحين فتح الباب على مصراعيه أمام نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد عبد المعطي حجازي ليهدموا عرش القصيدة العمودية، ويبنوا في مكانه صرح القصيدة الحديثة، التي تعتمد التفعيلة لا البحر، وذلك بتأثير ما قرأوه من شعر غربي، مترجما أو في لغته الأصلية.