آخر تحديث :Wed-17 Apr 2024-07:56PM
جامعة عدن

ارشيف الاخبار

الدكتور عبدالرحمن عبدالخالق يقدم قراءة علمية متفردة للكتاب الـ8 للدكتور عمشوش: ((جدة وعدن ومسقط في كتاب ثلاث سنوات في آسيا (1855-1858))

2014-12-17

موقع جامعة عدن الإلكتروني



عـدن/كتب: الدكتور: عبد الرحمن عبد الخالق (أستاذ محاضر بقسم الصحافة ولإعلام – جامعة عدن):

قد يكون ما كتب عن اليمن من دراسات تاريخية أو اجتماعية أو سياسية، أو تلك التي تدخل في باب أدب الرحلات، أو أعمال سردية ساحتها اليمن، من قبل كتاب أجانب أو مستشرقين، ليست بتلك الكُثرة، مقارنة بما كُتب عن بلدان عربية أخرى، مثل مصر أو سوريا أو العراق، وتكاد تقتصر تلك الكَتابات على لغات ثلاث هي، الإنجليزية والروسية والفرنسية، ومع ذلك يبقى ما ترجم منها أو استعرض قليلا جداً، وذلك القليل يكاد يُحصر في لغتين، هي الإنجليزية والروسية، وبقى ما كُتب بالفرنسية خارج دائرة الاهتمام المرجو، وهو ما عزاه الأستاذ الدكتور مسعود سعيد عمشوش في مقدمة كتابه الجديد موضوع تناولنا إلى سببين بارزين، هما قلة عدد الباحثين والمترجمين الملمين باللغة الفرنسية من أبناء الجزيرة وطغيان الثقافة الإنجليزية والأمريكية في المنطقة.

ولم يكتف الباحث بالتنظير لهذا الأمر؛ أمر ترجمة ما كتبه الكتاب والمستشرقون واستعراضه، بل سخَّر جزءًا كبيرًا من وقته وجهده للاهتمام بالوثائق الفرنسية بغية مساعدة الباحثين والمؤرخين العرب على الخروج من دائرة القراءة الأحادية، والاعتماد على الوثائق الإنجليزية فقط عند كتابتهم لتاريخنا الحديث والمعاصر، وكان له أن قام خلال العقد الأخير من القرن الماضي بعدد من الدراسات والترجمات اعتمد فيها على النصوص الفرنسية التي كتبت حول الجزيرة، منها بحث بعنوان �قراءة فرنسية للاحتلال الفرنسي لعدن سنة 1839م�، وترجمة �وثائق الأراضي الفرنسية في الجزيرة العربية�، وكان له أيضًا أن أصدر عدة كتب في هذا الإطار: �عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين� (2002م)، و�حضرموت في كتابات فريا ستارك� (2005م) و�صورة اليمن في كتابات الغربيين: دراسات في تمثيل الآخر� (2010م)، و�المستكشف هاري سانت هاري سانت جون فيلبي ورحلته إلى حضرموت� (2012م) و �تعز في كتاب إيفا هوك: شاهدتُ اليمن من دون حجاب، طبيبة بين الشرق والغرب� (2012م)، وجميعها صادرة عن دار جامعة عدن للطباعة والنشر.

وبما أن الأديب الدبلوماسي الكونت جوزيف آرثر دي غوبينو (1816-1882م) يُعد من أشهر الرحالة الفرنسيين الذين زاروا الجزيرة العربية خلال القرن التاسع عشر، ورأى الباحث الأستاذ الدكتور مسعود سعيد عمشوش أنه لم يحظ باهتمام أي باحث عربي حتى اليوم، فقد عنَّ له أن يكرس له كتابه الأخير. ذلك في إطار اهتمامه بما كتبه الرحالة الغربيون عن الجزيرة العربية بشكل عام.

وقد ركز الباحث على دراسة الصورة التي رسمها دي غوبينو لثلاث مدن تقع على سواحل الجزيرة العربية: جدة وعدن ومسقط، في فصول ثلاثة، هي الرابع والخامس والسادس من المجلد الأول من كتابه (ثلاث سنوات في آسيا Trois ans en Asie).

وما يحسب لعمشوش –هنا- أنه لم يكتف بالتعامل مع النصوص باللغة الفرنسية، ليقدَّم لنا دراسته أو كتابه القيّم، بل قام بترجمة الفصول الثلاثة لِكتَاب دي غوبينو، وبذلك كان له قصب السبق في ترجمة هذه الفصول التي عُنيت بأهم ثلاث مدن على مستوى الجزيرة والخليج.

عمد الدكتور مسعود عمشوش في الجزء الأول من كتابه إلى تحديد مسار حياة الكونت جوزيف آرثر دي غوبينو، مُزيحًا النقاب –قليلًا- عن شخصيته، لا سيما عن أفكاره العنصرية والاستعمارية والعوامل التي دفعته لزيارة جدة وعدن ومسقط والحديث عنها، وأهم ملامح كتابه �ثلاث سنوات في آسيا�. فالكونت جوزيف آرثر دي غوبينو المولود سنة 1816م في (فيل دافريه) إحدى ضواحي باريس، يُعد أحد أدباء فرنسا في القرن التاسع عشر، وكان مثل بول كلوديل أحد دبلوماسييها، وكأندريه مارلو أحد رحالتها المشهورين. وكان أيضًا من أوائل المنظرين لعلم الأجناس ذي النزعة العنصرية.

يزعم آرثر دي غوبينو في كتابه الأول �دراسة حول تفاوت الأجناس البشرية� الذي أهداه إلى الملك جورج الخامس دي هانوفر -حسب عمشوش- أن العرق هو المحك الأساس، بل الوحيد للتاريخ، وينفي بالمقابل وجود أي دور للبيئة المادية أو الأخلاق أو المؤسسات أو الديانات في تطور البشرية، فعبقرية الجنس فقط هي التي تحدد مسار الإنسان. ومن وجهة نظره يتفوق الجنس الأبيض كثيرًا على الجنسين الأصفر والأسود، ومن بين فصائل الجنس الأبيض يتفوق الفصيل الآري على الفصيلين السامي والحامي. ويرى أن أكثر الشعوب �عبقرية� هي الشعوب التي احتوت على أكبر قدر من الدماء الآرية.

وهناك إجماع اليوم على أن هذه �الفلسفة الغوبينية Gobinism� أسهمت في ظهور بعض الحركات العنصرية في القرن العشرين مثل: النازية والفاشية وغيرها. ولم يفت الدكتور مسعود عمشوش توضيح ذلك التناقض الذي بدا في تنظير دي غوبينو للعنصرية من ناحية، وولوعه منذ شبابه المبكر بالشرق وبالإسلام، وإعجابه بإعجاز القرآن، وإبداء رغبته في أداء فريضة الحج، حتى أنه كان يرتدي ثيابًا شرقية ويقول عن نفسه إنه مسلم، إضافة إلى ولعه بمصر وفارس، ذلك من خلال استناد الباحث إلى مقالة للكاتب إبراهيم العريس نشرها في صحيفة الحياة اللندنية عن كتاب �دراسة حول تفاوت الأجناس البشرية�، يتناول فيها بعضًا من تناقضات دي غوبينو، أوضح فيها أن العنصرية التي أصبح دي غوبينو المُنظَّر الأول لها لم تكن رائجة في أيامه، إذ إن عنصريته –حسب العريس- توجهت أول ما توجهت ضد الفرنسيين، وليس ضد الشعوب �الدنيا� الأخرى، أي ضد الشعوب الملوَّنة. ويضيف موضحًا أنّ التناقض يبدو ظاهريًا؛ لأن غوبينو وجّه نزعته العنصرية ناحية تمجيد الشعوب الآرية ذات الامتداد الجرماني المعاصر، فهو كان مقتنعًا بأن جذور الآرية نبتت في فارس. لذا ما كان يحكم فكر غوبينو، إنما كان اعتباره الشعوب اللاتينية المُعاصرة، وعلى رأسها الشعب الفرنسي –شعبه أصلاً- شعوبًا دنيا مقارنة بالجرمان.

وأوضح عمشوش إلى أن إعجاب دي غوبينو الشديد بالألمان، الذين في نظره يحتفظون اليوم بأكبر قسط من الدماء الآرية، وإعجابه بالحضارة الفارسية وبالشرق بشكل عام، وانتقاده الشديد للإمبراطورية الفرنسية، أدَّت إلى نبذه من وتجاهل الوسط الأدبي الفرنسي المُعاصر له. ولم يتألق اسمه في أوروبا إلاَّ عندما ذكره بعض الألمان أمثال الموسيقار ريشارد فاغنر والفيلسوف فريدريش نيتشه والباحث لودفيغ شيمن، الذي كتب سيرته الطويلة.

ارتأى الدكتور عمشوش من خلال عنوانه الفرعي في الفصل الأول �دي غوبينو والعرب وجزيرة العرب� أن يمهد لما يمكن أن يتحدث عنه لاحقًا عن صورة العرب كما رآهم دي غوبينو في جدة وعدن ومسقط، معتمدًا على ما أورده دي غوبينو في كتابه �الأديان والفلسفة في وسط آسيا� (1864م)، وفي الجزء الأخير من كتابه �ثلاث سنوات في آسيا�، وكذلك في كتابه الأول �دراسة حول التفاوت بين الأجناس البشرية�، الذي يقع خارج إطار دراسة الباحث.

ويمكن تحديد أهم رؤى دي غوبينو إستنادًا على أهم ما اقتطعه د. مسعود عمشوش من الكتب المشار إليها. ففي كتاب �دراسة حول التفاوت بين الأجناس البشرية� تتطرق رؤى دي غوبينو -حسب عمشوش- إلى موقع العرب بين الأجناس البشرية، فقد أطلق على تدهور الأجناس العليا بسبب اختلاطها بالأجناس الدنيا �السوممة�، إذ إن دي غوبينو يعتقد أنّ الشعوب السامية كانت نتاج �جسر الشرق الأوسط� الذي التقت فيه الأجناس الثلاثة: الأبيض والأصفر والأسود. ويقرر أنّ السامية عبارة عن خلاصة مزج لتلك الأجناس. ووضع دي غوبينو -الذي لم يكن معاديًا للسامية- العربَ وسط هذا المزيج العرقي السامي.

أما أخطر الملاحظات حسب وصف الباحث التي أطلقها دي غوبينو حول العرب، فهي تلك التي ضمنها كتابه �ثلاث سنوات في آسيا�، حيث أشار إلى أنه لا يوجد في تلك البلدان التي شاهدها �أمة سياسية� بالمعنى الذي يُعطى للمصطلح حينها، وأنّ العرب لا يستطيعون أن يطالبوا بالانتماء إلى مثل هذا الكيان، ولم يقدروا على ذلك أبدًا. وأنه حينما خطفهم الإسلام فجأة من صحاريهم ورماهم عن طريق الفتح وسط الشعوب القديمة التي تتحدث اللغة اليونانية، رسَّخ لديهم حب النَّهب، وليس فن قيادة الشعوب الذي لم يتعلموه منذ ذلك الحين. وأضاف دي غوبينو إن جميع رجال الدولة لديهم وإدارييهم وعلمائهم وفلاسفتهم كانوا من الأجانب الذين تحولوا إلى الدَّم العربي، وشرعوا منذ وقت مبكر في إدارة دفة الحكم في إمبراطوريتهم بدون العرب وضدهم. وسار دي غوبينو على المنحى نفسه، قائلاً إن العرب إذا أُخذوا بشكل إنفرادي، عرقٌ نبيل، لكنه غير قادر على استيعاب فكرة الأمة، وفكرة التنظيم (systeme). وإنه ارتقى إلى مستوى القبيلة، لكنه لم يستطع أن يتجاوزه. وأنّ الجنس العربي لا يملك شيئًا مما يقرب الناس بعضهم من بعض، ولا حتى الاعتقاد الديني الذي ينحصر عندهم في إطار المشاعر الصرفة. وقد أورد الدكتور مسعود عمشوش أطروحات دي غوبينو السالفة وغيرها حول العرب وترجيحه حسب إشارته كفة الإيرانيين ضد العرب إلى تعصبه للجنس الآري، إذ كان يرى أن الفرس القدماء كانوا جزءًا منه، لاسيما أنّ غوبينو –المتعصب للفرس- أضاف بعد أن قدَّم العرب على ذلك النحو: �أما الفرس فيستوعبون ما ظل منغلقًا على العرب. كما أنهم بذكائهم يستطيعون أن يتعلموا أي شيء. لكن تعوزهم القدرة على التركيز الفكري. ويفتقرون أيضًا إلى المنطق، وقبل ذلك إلى القدرة على الإدراك".

الجزء الثاني من الكتاب أفرده الدكتور عمشوش للأبعاد الإثنولوجية لصورة جدة وعدن ومسقط في كتاب دي غوبينو �ثلاث سنوات في آسيا�، مشيرًا إلى أن جدة وعدن مسقط مدن ساحلية وموانئ ظلت تجذب الناس من مختلف الأصقاع ومن مختلف الأجناس، ذلك أنّ جدة اكتسبت أهميتها بوصفها ميناء مكة، وكان موقع ميناء عدن عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر عاملاً مهمًا لجذبها للناس، كما كانت مسقط محطة مهمة في طريق التجارة بين الشرق والغرب، لا سيما بعد أن أصبحت إحدى عاصمتي الإمبراطورية التي أسسها السيد سعيد بن سلطان في مطلع القرن التاسع عشر في عمان والسواحل الشرقية لإفريقيا.

في الجزئية الخاصة بـ(مسقط وعدن الهنديتان) في إطار الجزء الثاني من الكتاب، أشار عمشوش إلى أن من السمات التي تتميز بها جدة عن عدن ومسقط: عدم وجود جالية هندية مهمة فيها، على الرغم من أن دي غوبينو يؤكد في سياق حديثه عن التجار الهنود في مسقط أنه سبق أن شاهد كثيرًا من التجار البانيان في جدة. ويؤكد أن (فيكتوريا) كانت تحمل على متنها أموالاً طائلة لهؤلاء التجار، أما في كل من عدن ومسقط فقد كان عدد الهنود مرتفعًا جدًا حينما زارهما دي غوبينو سنة 1855م.

وفي السياق نفسه كتب الدكتور مسعود عمشوش �وفي مسقط يلمس الرحالة دي غوبينو (الحضور الهندي) قبل أن يضع قدمه في المدينة، حيث يتبين له أن �السفن الجميلة أوروبية التصميم تعود ملكيتها للسلطان وعدد من التجار المحليين أو الهنود�. وإذا كان قد رأى في عدن (مدينة هندية)، فهو يؤكد أيضًا أن الهنود بفضل تحكمهم في التجارة في مسقط، باتوا يشكلون أحد أهم مراكز المدينة وفي قرارات السلطان�.

وعند التطرق للأفارقة السود أشار الباحث إلى تركيز دي غوبينو للحضور الصومالي الكثيف في عدن، أما فيما يتصل بالأفارقة في مسقط، فقد أبدى عمشوش استغرابه من أن دي غوبينو لم يسهب في الحديث عن الأفارقة في مسقط، إذ اكتفى دي غوبينو-حسب الباحث- برسم نوع من الهرم الاجتماعي يضع الأفارقة في أسفله، مستشهدًا بقول المستشرق الفرنسي �يتكون سكان مسقط من ثلاثة عناصر: الهنود، والعرب، وهم السكان الأصليون ومنهم يأتي رجال الدين وعدد من التجار، ثم مجموعة الزنوج، وهم كثيرون ويقومون بمختلف أعمال الخدمات المنزلية. وعندما يصبحون أحرارًا ينصهرون وسط العرب، وذلك عن طريق اكتسابهم المواطنة الفعلية وانتمائهم المشترك للدين الإسلامي وتتزوج بناتهم من سكان البلاد. وكذلك أبناؤهم�. وكتب في الفصل نفسه عن الوجود الأوربي في العواصم الثلاث (جدة وعدن ومسقط)، وعن العلاقات بين الأجناس من وجهة نظر دي غوبينو.

وخصص البروفيسور مسعود سعيد عمشوش الفصل الثالث للكتابة عن (الأبعاد الاستعمارية لرؤية دي غوبينو لجدة وعدن ومسقط) من الناحتين السياسية والاقتصادية، والفصل الرابع عن (الأبعاد الفنية)، وفيه (وصف المدن) و (تقديم شخصيتي السيد سعيد وكامل باشا) و (السخرية والبعد الأسطوري والديني). ولم يكتف عمشوش بالعرض والتحليل، فخصّص الفصل الخامس للترجمات الرائدة التي قام بها للفصول الثلاثة التي كرسها دي غوبينو للمدن الثلاث بالتوالي؛ جدة، عدن، مسقط.